قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلْقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً}.قطرةٌ أجزاؤُها متماثِلَةٌ، ونُطْفَةٌ أبعاضُها متشاكِلة، ثم جعل بعضها لْحماً وبعضَها عَظْماً، وبعضَها شَعْراً، وبعضها ظُفراً، وبعضها عَصَبَاً، وبعضها جِلْدَاً، وبعضها مُخَّاً وبعضها عِرْقاً. ثم خَصَّ كُلَّ عضوٍ بهيئةٍ مخصوصةٍ، وكلَّ جُزْءٍ بكيفيةٍ معلْومةٍ. ثم الصفاتُ التي للإنسان خَلَقَهَا متافوتةً، من السَّمْع والبَصَرِ والفِكْرِ والغَضَبِ والقدرةِ والعلم والإرادةِ والشجاعةِ والحقد والجودِ والأوصافِ التي يتقاصر عنها الحَصْرُ والعَدُّ.قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}.في التفاسير أنه صورة الوجه، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة، واخْتُصَّ به السَّمْع والبصر والعقل والتمييز، وما تفرَّد به بعضٌ منهم بمزايا في الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات.ويقال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَر}: وهو أَن هَيَّأهم لأحوالٍ عزيزة يُظْهِرها عليهم بعد بلوغهم، إذا حصل لهم كما التمييز من فنون الأحوال؛ فلقومٍ تخصيصٌ بزينة العبودية، ولقومٍ تحرُّرٌ من رِقِّ البشرية، ولآخرين تحقَّقٌ بالصفاتِ الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هي أوصاف البشرية.قوله جلّ ذكره: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}.خلق السمواتِ والأرضين بجملتها، والعرشَ والكرسَّ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها- ثم لمَّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خَلْقِه بني آدم تخصيصاَ لهم وتمييزاً، وإفراداً لهم من بين المخلوقات.ويقال إنْ لم يَقُلْ لَكَ إِنَّكَ أحسنُ المخلوقاتِ في هذه الآية فلقد قال في آية أخرى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين- ولم يُثْنِ عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزُّ وأجلُّ من أن يثني عليك.ويقال لما ذكر نعتَك، وتاراتِ حالِكَ في ابتداء خَلْقَك، ولم يكن منك لسانُ شكرٍ ينطق، ولا بيانُ مدحٍ ينطلق نَابَ عنك في الثناء على نفسه، فقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}.